[][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][]
الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى
;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;
بسم الله الرحمن الرحيم
;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;;
قال الله تعالى : (( وما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه )) [ سبأ : 39 ] . وقال تعالى : (( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )) [ البقرة : 272 ] . وقال تعالى : (( وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم )) [ البقرة : 273 ] .
ـ وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة ، فهو يقضي بها ويعلمها " . متفق عليه .
معناه : ينبغي أن لا يغبط أحد إلا على إحدى هاتين الخصلتين .
ـ وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا : يا رسول الله ، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه . قال : فإن ماله ما قدم ، ومال وارثه ما أخّر " . رواه البخاري .
ـ وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا النار ولو بشق تمرة " . متفق عليه .
ـ وعن جابر رضي الله عنه قال : " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال : لا " . متفق عليه .
ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا . متفق عليه .
ـ وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : أنفق يابن آدم يُنفق عليك " . متفق عليه .
ـ وعن عبد الله رسول بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : " تُطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " . متفق عليه .
ـ وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز ، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعدها إلا أدخله الله تعالى بها الجنة " . رواه البخاري .
وقد سبق بيان هذا الحديث في باب بيان كثرة طرق الخير .
ـ عن أبي أمامة صُدي بن عجلان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك ، وأن تمسكه شر لك ، ولا تلام على كفاف ، وابدأ بمن تعول ، واليد العليا خير من اليد السفلى " . رواه مسلم .
الشرح
قال العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :
فقال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : ( باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى )
المال الذي أعطاه الله بني آدم ، أعطاهم إياه فتنة ، ليبلوهم ؛ هل يحسنون التصرف فيه أم لا .
قال الله تعالى : (( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم )) [ التغابن : 15 ] . فمن الناس من ينفقه في شهواته المحرمة ، وفي لذائذه التي لا تزيده من الله إلا بعدا ، فهذا يكون ماله وبالا عليه ـ والعياذ بالله ـ . ومن الناس من ينفقه ابتغاء وجه الله فيما يقربه إلى الله على حسب شريعة الله ، فهذا ماله خير له .
ومن الناس من يبذل ماله في غير فائدة ، ليس في شيء محرم ولا في شيء مشروع ، فهذا ماله ضائع عليه ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال .
وينبغي للإنسان إذا بذل ماله فيما يرضي الله أن يكون واثقا بوعد الله ـ سبحانه وتعالى ـ حيث قال في كتابه : (( وما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه وهو خير الرازقين )) [ سبأ : 39 ] . (( فهو يُخلفه )) أي يعطيكم خلفا عنه .
وليس معناه : فهو يَخلفه ، إذ لو كان المراد فهو يَخلفه ، لكان معنى الآية : أن الله يكون خليفة ، وليس الأمر كذلك ، بل فهو يُخلفه أي يعطيكم خلفا عنه .
ومنه الحديث : " الله أجرني في مصيبتي واخْلِف لي خيرا منها " ولا تقل : واخلُف لي خيرا منها ، بل وأخلِف أي ارزقني خلفا عنها خيرا منها .
فالله عز وجل وعد في كتابه أن ما أنفقه الإنسان فإن الله يخلفه عليه ، يعطيه خلفا عنه ، وهذا يفسره قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الأحاديث التي ساقها المؤلف مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا " يعني : أتلف ماله .
والمراد بذلك من يمسك عما أوجب الله عليه من بذل المال فيه ، وليس كل ممسك يُدعى عليه ، بل الذي يمسك ماله عن إنفاقه فيما أوجب الله ، فهو الذي تدعو عليه الملائكة بأن الله يتلفه ويتلف ماله .
والتلف نوعان : تلف حسي ، وتلف معنوي .
1 ـ التلف الحسي : أن يتلف المال نفسه ، بأن يأتيه آفة تحرقه أو يسرق أو ما أشبه ذلك .
2 ـ والتلف المعنوي : أن تنزع بركته ، بحيث لا يستفيد الإنسان منه في حياته ، ومنه ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال لأصحابه :" أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ " قالوا : يا رسول الله ، ما منا أحد إلا وماله أحب إليه .
فمالك أحب إليك من مال زيد ، وعمرو ، وخالد ، ولو كان من ورثتك ، قال :" فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخّر " .
وهذه حكمة عظيمة ممن أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم ، فمالك الذي تقدمه لله عز وجل تجده أمامك يوم القيامة ، ومال الوارث ما يبقى بعدك من مالك فينتفع به ويأكله الوارث ، فهو مال وارثك على الحقيقة . فأنفق مالك فيما يرضي الله ، وإذا أنفقت فإن الله يخلفه وينفق عليك ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال الله تعالى : أنفق يا ابن آدم يُنفق عليك " .
وهذه الأحاديث كلها وكذلك الآيات تدل على أنه ينبغي للإنسان لأن يبذل ماله حسب ما شرع الله عز وجل ، كما جاء في الحديث الذي صدّر به المؤلف هذا الباب ؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لا حسد إلا في اثنتين " يعني : لا غبطة ، ولا أحد يُغبط على ما أعطاه الله سبحانه وتعالى من مال وغيره إلا في اثنتين فقط :
الأولى : رجل أعطاه الله مالا ، فسلطه على هلكته في الحق ، صار لا يبذله إلا فيما يرضي الله ، هذا يُحسد لأنك الآن تجد التجار يختلفون ، منهم من ينفق أمواله في سبيل الله ، في الخيرات ، في أعمال البر ، إعانة فقير ، بناء مساجد ، بناء مدارس ، طبع كتب ، إعانة على الجهاد ، وما أشبه ذلك فهذا سلط على هلكته في الحق .
ومنهم من يسلطه على هلكته في اللذائذ المحرمة ـ والعياذ بالله ـ يسافر إلى الخارج فيزني ، ويشرب الخمر ، ويلعب القمار ، ويتلف ماله فيما يغضب الرب عز وجل ، فالذي سلطه الله على هلكة ماله في الحق يغبط ، لأن الغالب أن الذي يستغني يبطر ويمرح ويفسق ، فإذا رؤي أن هذا الرجل الذي أعطاه الله المال ينفقه في سبيل الله فهو يغبط .
والثانية : رجل آتاه الله الحكمة يعني العلم ، الحكمة هنا العلم كما قال الله تعالى : (( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم )) [ النساء : 113] . " فهو يقضي بها ويعلمها " يقضي بها في نفسه وفي أهله ، وفي من تحاكم عنده ، ويعلمها الناس أيضا ، لا يقتصر على أن يأتيه الناس فيقول : إذا جاءوني حكمت وقضيت ، بل يقضي ويعلم ، ويبدأ الناس بذلك ، فهذا لاشك أنه مغبوط على ما آتاه الله عز وجل من الحكمة .
والناس في الحكمة ينقسمون إلى أقسام .
قسم : آتاه الله الحكمة فبخل بها حتى على نفسه ، لم ينتفع بها في نفسه ، ولم يعمل بطاعة الله ، ولم ينته عن معصية الله ، فهذا خاسر ـ والعياذ بالله ـ وهذا يشبه اليهود الذين علموا الحق واستكبروا عنه .
وقسم آخر : آتاه الله الحكمة فعمل بها في نفسه ، لكن لم ينفع بها عباد الله ، وهذا خير من الذي قبله ، لكنه ناقص .
وقسم آخر : أعطاه الله الحكمة فقضى بها وعمل بها في نفسه وعلمها الناس ، فهذ خير الأقسام .
وهناك قسم رابع : لم يؤت الحكمة إطلاقا فهو جاهل ، وهذا حرم خيرا كثيرا ، لكنه أحسن حالا ممن أوتي الحكمة ولم يعمل بها ، لأن هذا يرجى إذا علم أن يتعلم ويعمل ، بخلاف الذي أعطاه الله العلم ، وكان علمه وبالا عليه ـ والعياذ بالله ـ .
ـ وعن أنس رضي الله عنه قال : " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه ، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا ، فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها " . رواه مسلم
ـ وعن عمر رضي الله عنه قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما ، فقلت : يا رسول الله لغير هؤلاء كانوا أحق به منهم ؟! قال : " إنهم خيّروني أن يسألوني بالفحش فأعطيهم أو يُبخّلوني ، ولست بباخل " . رواه مسلم
ـ وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال : بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفله من حنين ، فعلقه الأعراب يسألونه ، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أعطوني ردائي ، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما ، لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا " . رواه البخاري .
مقفله : أي حال رجوعه ـ والسمرة : شجرة ـ والعضاه : شجر له شوك .
ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل " . رواه مسلم .
وعن أبي كبشة عمر بن سعد الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ـ أو كلمة نحوها ـ وأحدثكم حديثا فاحفظوه . قال : إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما ، فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علما ، ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان ، فهو نيته، فأجرهما سواء . وعبد رزقه الله مالا ، ولم يرزقه علما ، فهو يخبط في ماله بغير علم ، لا يتقي فيه ربه ولا يصل رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا ، فهذا بأخبث المنازل . وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما ، فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو نيته ، فوزرهما سواء " . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
ـ وعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "
ما بقي منها ؟ ". قالت : ما بقي منها إلا كتفها . قال :" بقي كلها غير كتفها " . رواه الترمذي وقال حديث صحيح .
ومعناه : تصدقوا بها إلا كتفها فقال : بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها .
ـ وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا توكي فيوكي الله عليك " .
وفي رواية :" أنفقي ـ أو انفحي أو انضحي ـ ولا تحصي فيحصي الله عليك ، ولا توعي فيوعي الله عليك ". متفق عليه .
وانفحي ـ بالحاء المهملة ـ : هو بمعنى أنفقي ، وكذلك : انضحي .
ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" مثل البخيل والمنفق ، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق ، فلا ينفق إلا سبغت ـ أو وفرت ـ على جلده حتى تُخفي بنانه ، وتعفو أثره ، وأما البخيل ، فلا يريد أن يُنفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسعها فلا تتسع " . متفق عليه .
والجبة : الدرع ، ومعناه : أن المنفق كلما أنفق سبغت ، وطالت حتى تجر وراءه ، وتُخفي رجليه وأثر مشيه وخطواته .
ـ وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا طيبا ـ فإن الله يقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " . متفق عليه .
الفلو : بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو ، ويقال أيضا : بكسر الفاء وإسكان الام وتخفيف الواو : وهو المُهر .
ـ وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض ، فسمع صوتا في سحابة : اسق حديقة فلان ، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرّة ، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء ، فإذا رجل قائم في حديقته يحوّل الماء بمسحاته فقال له : يا عبد الله ما اسمك ؟ قال فلان ـ للاسم الذي سمع في السحابة ـ فقال له : يا عبد الله لم تسألني عن اسمي ؟ قال : إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان ـ لاسمك ـ فما تصنع فيها ؟ فقال : أما إذ قلت هذا ، فإني أنظر إلى ما يخرج منها ، فأتصدق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثا ، وأرد فيها ثلثه " . رواه مسلم .
الحرّة : الأرض الملبسة حجارة سوداء ، والشرجة : بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء وبالجيم : هي مسيل الماء .
الشرح
قال العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا على الإسلام إلا أعطاه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أكرم الناس ، وكان يبذل ماله فيما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى .
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم إذا سأله شخص على الإسلام ـ يعني على التأليف على الإسلام والرغبة فيه ـ إلا أعطاه ، مهما كان هذا الشيء ، حتى إنه سأله أعرابي فأعطاه غنما بين جبلين ، أي أنها غنم كثيرة أعطاه إياها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما يرجو من الخير لهذا الرجل ولمن وراءه .
ولذلك ذهب هذا الرجل إلى قومه فقال : " يا قوم أسلموا ، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر " . ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، يعني : يعطي عطاء جزيلا ، عطاء من لا يخشى الفقر ، فانظر إلى هذا العطاء كيف أثر في هذا الرجل هذا التأثير العظيم ، حتى أصبح داعية إلى الإسلام .
وهو إنما سأل طمعا كغيره من الأعراب ، فالأعراب أهل طمع ، يحبون المال ويسألونه ، ولكنه لما أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام هذا العطاء الجزيل صار داعية إلى الإسلام فقال : " يا قوم أسلموا " ولم يقل أسلموا تدخلوا الجنة وتنجوا من النار ، بل قال : " أسلموا ؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر " يعني سيعطيكم ويكثر .
ولكنهم إذا أسلموا من أجل المال ، فإنهم لا يلبثون يسيرا إلا ويصير الإسلام أحب شيء إليهم أحب من الدنيا وما فيها ، ولهذا كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعطي الرجل تأليفا له على الإسلام حتى يسلم ، وإن كانت نيته للمال ، إلا أنه إذا دخل في الإسلام وتعلم محاسن الإسلام وقر الإيمان في قلبه .
ويؤخذ من هذا الحديث وأمثاله : أنه لا ينبغي لنا أن نبتعد عن أهل الكفر وعن أهل الفسوق ، وأن ندعهم للشياطين تلعب بهم ، بل نؤلفهم ، ونجذبهم إلينا بالمال واللين وحسن الخلق حتى يألفوا الإسلام ، فهاهو الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعطي الكفار ، يعطيهم حتى من الفيء .
بل إن الله جعل لهم حظا من الزكاة ، نعطيهم لنؤلفهم على الإسلام ، حتى يدخلوا في دين الله ، والإنسان قد يسلم للدنيا ، ولكن إذا ذاق طعم الإسلام رغب فيه ، حتى يكون أحب شيء إليه .
قال بعض أهل العلم : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله ، فالأعمال الصالحة لابد أن تربى صاحبها على الإخلاص لله عز وجل ، والمتابعة للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
وإذا كان هذا دأب الإسلام فيمن يعطى على الإسلام ويؤلف ، فإنه ينبغي لنا أن ننظر إلى هذا نظرة جدية ، فنعطي من كان كافرا إذا وجدنا فيه قربا من الإسلام ، ونهاديه ونحسن له الخلق ، فإذا اهتدى فلئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم . وهكذا أيضا الفساق هادهم ، انصحهم باللين، وبالتي هي أحسن ، ولا تقل : أنا أبغضهم لله ، ابغضهم لله وادعهم إلى الله ، بغضك إياهم لله لا يمنعك أن تدعوهم إلى الله عز وجل وإن كنت تكرههم ، فلعلهم يكونون من أحبابك في الله يوما من الأيام .
ثم ذكر المؤلف الحديث الآخر أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : " ما نقصت صدقة من مال " إذا تصدق الإنسان فإن الشيطان يقول له : إذا تصدقت نقص مالك ، عندك مائة ريال إذا تصدقت بعشرة لم يكن عندك إلا تسعون ، إذا نقص المال فلا تتصدق ، كلما تصدقت ينقص مالك .
ولكن من لا ينطق عن الهوى يقول : " ما نقصت صدقة من مال " قد تنقصه كمًا ، لكنها تزيده كيفا وبركة ، وربما هذه العشرة يأتي بدلها مائة ، كما قال تعالى : (( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه )) [ سبأ : 39 ] . أي يجعل لكم خلفا عنه عاجلا ، وأجرا وثوابا آجلا ، قال تعالى : (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة )) [ البقرة : 261 ] .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أكرم الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة .
الريح المرسلة التي أمرها الله وأرسلها فهي عاصفة سريعة ، ومع ذلك فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أسرع بالخير في رمضان من هذه الريح المرسلة ، فينبغي لنا أن نكثر من الصدقة والإحسان وخصوصا في رمضان ، فنكثر من الصدقات والزكوات وبذل المعروف وإغاثة الملهوف وغير ذلك من أنواع البر والصلة .
ويزيد العامة على قوله صلى الله عليه وسلم : " ما نقصت صدقة من مال " قولهم : " بل تزده بل تزده " وهذه لا صحة لها ، فلم تصح عن الرسول ـ عليه والصلاة والسلام ـ وإنما الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : " ما نقصت صدقة من مال " .
والزيادة التي تحصل بدل الصدقة إما كمية وإما كيفية .
مثال الكمية : أن الله تعالى يفتح لك بابا من الرزق ما كان في حسابك .
والكيفية : أن ينزل الله لك البركة فيما بقي من مالك .
ثم قال صلى الله عليه وسلم :" وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " إذا جنى عليك أحد وظلمك في مالك ، أو في بدنك ، أو في أهلك ، أو في حق من حقوقك ، فإن النفس شحيحة تأبى إلا أن تنتقم منه ، وأن تأخذ بحقك ، وهذا لك . قال تعالى : (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) [ البقرة : 194 ] .
وقال تعالى : (( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به )) [ النحل : 126 ] .
ولا يلام الإنسان على ذلك ، لكن إذا هم بالعفو وحدث نفسه بالعفو ، قالت له نفسه الأمارة بالسوء : إن هذا ذل وضعف ، كيف تعفو عن شخص جنى عليك أو اعتدى عليك !
وهنا يقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " والعز : ضد الذل ، وما تحدثك به نفسك أنك إذا عفوت فقد ذللت أمام من اعتدى عليك ، فهذا من خداع النفس الأمارة بالسوء ونهيها عن الخير ، فإن الله تعالى يثيبك على عفوك هذا عزّا ورفعة في الدنيا والآخرة .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : " وما تواضع أحد لله إلا رفعه " . والتواضع من هذا الباب أيضا ، فبعض الناس تراه متكبرا ويظن أنه إذا تواضع للناس نزل ، ولكن الأمر بالعكس ، إذا تواضعت للناس فإنك تتواضع لله أولا ومن تواضع لله فإن الله يرفعه ويعلي شأنه .
وقوله : " تواضع لله " لها معنيان :
المعنى الأول : أن تتواضع لله بالعبادة وتخضع وتنقاد لأمر الله .
المعنى الثاني : أن تتواضع لعباد الله من أجل الله ، وكلاهما سبب للرفعة ، سواء تواضعت لله بامتثال أمره واجتناب نهيه وذللت له وعبدته أو تواضعت لعباد الله من أجل الله لا خوفا منهم ، ولا مداراة لهم ، ولا طلبا لمال أو غيره ، إنما تتواضع من أجل الله عز وجل ، فإن الله تعالى يرفعك في الدنيا وفي الآخرة .
فهذه الأحاديث كلها تدل على فضل الصدقة والتبرع ، وبذل المعروف والإحسان إلى الغير ، وأن ذلك من خلق النبي صلى الله عليه وسلم .
[][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][[][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][][]